محمد دخاي
يدعي ميلان كونديرا أنه لا يمتلك طموحًا نظريًا محددًا، ولكن كل عمل روائي يحمل في طياته نظرة مضمرة لتاريخ الرواية. فالرواية، باعتبارها فنًا من فنون الوجود، تستكشف جماليات فن الحياة وتسعى للبحث في الوجود البشري. تعتبر الرواية إنجازًا أوروبيًا خالدًا، حتى وإن كُتبت بجميع لغات العالم، فهي تتناول عالمًا غريبًا لم يتمكن "دون كيشوت" من فهمه بسبب غموضه الرهيب. من خلال هذا التوجه، تجعل الرواية نفسها أخلاقية، لأنها تعيد تعريف الإنسان وترد الاعتبار لما يسميه هيدغر بـ"نسيان الكائن". حيث يرى كونديرا أن الإنسان الذي ارتقى سابقًا إلى مرتبة سيد الطبيعة ومالكها، أصبح الآن مجرد شيء بسيط في نظر القوى التقنية والسياسية والتاريخية التي تتجاوزه وتتفوق عليه. وفي هذا السياق، يصبح للإنسان كينونته هامشية، محكومًا بمواجهة العديد من الحقائق النسبية المتناقضة بدلاً من مواجهة حقيقة مطلقة واحدة.
الرواية والوجود: استعادة دلالات الكائن الإنساني
الرواية، وفقًا لكونديرا، هي قراءة للوجود و"ما يدور في الداخل" كما وصفه. الإنسان، كما عند بلزاك، متجذر في التاريخ، والرواية تسعى للقبض على الزمن الضائع كما فعل بروست. من خلال موضوع القراءة، يحتفي كونديرا بالملتقى باعتباره أساسًا للتفكير الجمالي والوجودي. الرواية تقدم أرقامًا للقراء ذات قيم متفاوتة ولكن دائمًا ما تكون ذات موقع بديهي؛ بعض الحالات تقدم صورًا للقراءة، بينما الأرقام المعلقة على الراوي أو المؤلف تقدم دروسًا في القراءة. تشارك القراءة في فن العيش الأكثر عمومية، استنادًا إلى البطء والمتعة، وتكشف عن القيم التي يمكن وصفها بأنها أبجديات ضرورية. لذا، فإن موضوع القراءة ليس جزءًا من مجال الأدب الحصري، بل يجمع بين قيم معينة توجهنا نحو "أخلاقية" الرواية.
يلاحظ أن كونديرا ينتج مقالات حيث يكتب الرواية، وبذلك يصبح ناقدًا أدبيًا لرواياته الخاصة. ومع ذلك، لا يقدم أي نظرية للقراءة في مقالاته؛ يتم الكشف عنها حصريًا في متخيله السردي، إما من خلال المواقف المجازية أو خطاب الشخصيات أو الصوت السردي. يقدم كونديرا مواقف القراءة وشخصيات القارئ، مثل القارئ المعارض أو النموذجي أو السيئ، كما نجد عند إمبرتو إيكو، حيث يعرف كيف يلعب ويفسر النصوص وفقًا لقواعد السرد.
حكمة الرواية وحكمة اللايقين
لا يتردد كونديرا في الإفصاح عن مكنوناته في كتابه "فن الرواية"، حيث يزكي ما قاله هيرمان بروخ بأن مبرر وجود الرواية هو اكتشاف جزء من الوجود ما زال مجهولاً، وإن عجزت عن ذلك، فهي رواية لا أخلاقية. تسعى الاستراتيجيات السردية في الرواية لتقييم طريقة الحياة من خلال التركيز على فن العيش، الذي يبدو أنه يعبر عن الحنين إلى الماضي. تجربة القراءة، في جوهرها، يتم التعامل معها بطرق مختلفة، فهي نوع من المشاركة في فن العيش المفقود، حيث ينفتح على رثاء القيم الماضية والحنين إلى الماضي بوجود طريقة حياة مرغوبة لكنها طوباوية وغير قابلة للتطبيق على السلوكيات الحديثة. القراءة تصبح مكانًا مميزًا، موضوعًا للمتعة الحزينة، حيث تكمن المتعة في التفاصيل والمغامرة، وهي الثيمة الكبرى للرواية.
يتم التعامل مع القراءة بطريقة موضوعية؛ تُنظم هذه التجربة الوجودية من خلال مواقف القراءة وشخصيات القراء، التي يتم تقديرها بشكل أو بآخر. يُطرح السؤال حول ماذا تقرأ وكيف تقرأ، وتلتقي تجربة القراءة وتجربة الحياة لتؤدي إلى قيم إنسانية يدعيها المؤلف. يرى كونديرا الناس كأنهم شخصيتان من رواية "جاك القدري"، حيث لا نعرف من أين جاءا وإلى أين يذهبان، ويعيشون في زمن لا بداية له ولا نهاية، وفي فضاء لا حدود له. الرواية، في هذا الإطار، لا تموت أبدًا، لكنها قد تختفي لفترة زمنية معينة لأنها تقع خارج تاريخها، حيث يحدث موتها بهدوء، دون أن يراه أحد أو يثير استغراب أي إنسان.
تعليقات